فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{سَاء مَثَلًا} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان كمالِ قبحِ حالِ المكذبين بعد بيانِ كونِه كحال الكلبِ أو المنسلخ، وساء بمعنى بئس وفاعلُها مضمرٌ فيها ومثلًا تمييزٌ مفسرٌ له والمخصوصُ بالذم قوله تعالى: {القوم الذين كَذَّبُواْ بآياتنا} وحيث وجب التصادقُ بينه وبين الفاعلِ والتمييز وجب المصيرُ إلى تقدير مضافٍ إما إليه وهو الظاهرُ أي ساء مثلًا مثَلُ القومِ الخ، أو إلى التمييز أي ساء أصحابُ مثلِ القوم الخ، وقرئ {ساء مثلُ القوم}، وإعادةُ {القومِ} موصوفًا بالموصول مع كفاية الضميرِ بأن يقال: ساء مثلًا مثلُهم للإيذان بأن مدارَ السوء ما في حيز الصلة ولربط قولِه تعالى: {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} به فإنه إما معطوفٌ على {كذبوا} داخلٌ معه في حكم الصلةِ بمعنى جمعوا بين تكذيبِ آياتِ الله بعد قيام الحجةِ عليها وعلْمِهم بها وبين ظلمهم لأنفسهم خاصة أو منقطع عنه بمعنى وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم، فإن وبالَه لا يتخطاها. وأيًا ما كان ففي يظلمون لمحٌ إلى أن تكذيبَهم بالآيات متضمنٌ للظلم بها وأن ذلك أيضًا معتبرٌ في القصر المستفادِ من تقديم المفعول. اهـ.

.قال الألوسي:

{سَاء مَثَلًا} استئناف مسوق لبيان كمال قبح المكذبين بعد البيان السابق، وساء بمعنى بئس وفاعلها مضمر ومثلًا تمييز مفسر له، ويستغني بتذكير التمييز وجمعه وغيرهما عن فعل ذلك بالضمير، وأصلها التعدي لواحد، والمخصوص بالذم قوله سبحانه وتعالى: {القوم الذين كَذَّبُواْ بِآَيَاتِنَا} وحيث وجب صدق الفاعل والتمييز والمخصوص على شيء واحد والمثل مغاير للقوم لزم تقدير محذوف من المخصوص وهو الظاهر أو التمييز أي ساء مثلًا مثل القوم أو ساء أهل مثل القوم.
وفي الحواشي الشهابية أنه قرئ بإضافة {مَثَلُ} بفتحتين و{مَثَلُ} بكسر فسكون للقوم ورفعه فساء للتعجب وتقديرها على فعل بالضم كقضو الرجل و{مَثَلُ القوم} فاعل أي ما أسوأهم، والموصول في محل جر صفة للقوم أو هي بمعنى بئس {وَمَثَلُ} فاعل والموصول هو المخصوص في محل رفع بتقدير مضاف أي مثل الذين الخ.
وقدر أبو حيان في هذه القراءة تمييزًا، ورده السمين بأنه لا يحتاج إلى التمييز إذا كان الفاعل ظاهرًا حتى جعلوا الجمع بينهما ضرورة، وفيه ثلاثة مذاهب المنع مطلقًا والجواز كذلك والتفصيل فإن كان مغايرًا جاز نحو نعم الرجل شجاعًا زيد وإلا امتنع، وبعضهم يجعل المخصوص محذوفًا وفي كونه ما هو خلاف وإعادة القوم موصوفًا بالموصول مع كفاية الضمير بأن يقال ساء مثلًا مثلهم للإيذان بأن مدار السوء ما في حيز الصلة وليربط قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} به فإنه إما معطوف على كذبوا داخل معه في حكم الصلة بمعنى جمعوا بين أمرين قبيحين التكذيب وظلمهم أنفسهم خاصة أو منقطع عنه بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم فإن وبالها لا يتخطاها، وأيًا ما كان ففي ذلك لمح إلى أن تكذيبهم بالآيات متضمن للظلم بها وأن ذلك أيضًا معتبر في القصر المستفاد من التقديم، وصرح الطيبي والقطب وغيرهما أن الجملة على تقدير الانقطاع تذييل وتأكيد للجملة التي قبلها، ويشعر كلام بعضهم أن تقديم المفعول على الوجه الأول لرعاية الفاصلة وعلى الوجه الثاني للإشارة إلى التخصيص وأن سبب ظلمهم أنفسهم هو التكذيب، وفيه خفاء كما لا يخفى، هذا ثم أن هذه الآيات مما تري علماء السوء بثالثة الأثافي، وقد ذكر مولانا الطيبي طيب الله ثراه أن من تفكر في هذا المثل وسائر الأمثال المضروبة في التنزيل في حق المشركين والأصنام من بيت العنكبوت والذباب تحقق له أن علماء السوء أسوأ وأقبح من ذلك فما أنعاه من مثل عليهم وما هم فييه من التهالك في الدنيا مالها وجاهها والركون إلى لذاتها وشهواتها من متابعة النفس الأمارة وإرخاء زمامها في مرامها عافانا الله تعالى والمسلمين من ذلك.
ونقل عن مولانا شيخ الإسلام شهاب الدين السهروردي أنه كتب إلى الإمام فخر الدين الرازي تغمدهما الله تعالى برضوانه من تعين في الزمان لنشر العلم عظمت نعمة الله تعالى عليه فينبغي للمتيقظين الحذاق من أرباب الديانات أن يمدوه بالدعاء الصالح ليصفي الله تعالى مورد علمه بحقائق التقوى ومصدره من شوائب الهوى إذ قطرة من الهوى تكدر بحرًا من العلم ونوازع الهوى المركوز في النفوس المستصحبة إياه من محتدها من العالم السفلي إذا شابت العلم حطته من أوجه وإذا صفت مصادر العلم وموارده من الهوى أمدته كلمات الله تعالى التي ينفد البحر دون نفادها ويبقى العلم على كمال قوته، وهذه رتبة الراسخين في العلم لا المترسمين به وهم ورثة الأنبياء عليهم السلام كر عملهم على علمهم وتناوب العلم والعمل فيهم حتى صفت أعمالهم ولطفت وصارت مسامرات سرية ومحاورات روحية وتشكلت الأعمال بالعلوم لكان لطافتها وتشكلت العلوم بالأعمال لقوة فعلها وسرايتها إلى الاستعدادات، وفي اتباع الهوى إخلاد إلى الأرض قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه بِهَا ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ} [الأعراف: 176] فتطهير نور الفكرة عن رذائل التخيلات والارتهان بالموهومات التي أورثت العقول الصغار والمداهنة للنفوس القاصرة هو من شأن البالغين من الرجال فتصحب نفوسهم الطاهرة الملأ الأعلى فتسرح في ميادين القدس، فالنزاهة النزاهة من محنة حطام الدنيا والفرار الفرار من استحلاء نظر الخلق وعقائدهم فتلك مصارع الأدوان، وطالب الرفيق الأعلى مكلم محدث، والتعريفات الإلهية واردة عليه لمكان علمه بصورة الابتلاء واستئصاله شأفة الابتلاء بصدق الالتجاء وكثرة ولوجه في حريم القرب الإلهي وانغماسه مع الأنفاس في بحار عين اليقين وغسله نفث دلائل البرهان بنور العيان فالبرهان للأفكار لا للأسرار إلى آخر ما قال، ويا لها من موعظة حكيم ونصيحة حميم نسأل الله تعالى أن يهدينا لما أشارت إليه. اهـ.

.قال القاسمي:

{سَاء مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} [177].
{سَاء} أي: ما مثل به {مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أي: حيث شبهوا بالكلاب، إما في استواء الحالتين في النقصان وأنهم ضالون، وعظوا أم لم يوعظوا كما قدمنا، وإما في الخسة، فإن الكلاب لا همة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة، فمن خرج عن حيز الهدى والعلم، وأقبل على هواه، صار شبيهًا بالكلب، وبئس المثل مثله.
ولهذا ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: «ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه».
{وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} اعلم أن من السلف من ذهب إلى أن هذه الآية مثل ضربه الله لمن عرض عليه الإيمان فأبى أن يقبله وتركه، وهو قول قتادة وعكرمة واختاره أبو مسلم، حيث قال: قوله: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} أي: بيناها، فلم يقبل، وعرى منها.
وسواء قولك: انسلخ وعرى وتباعد، وهذا يقع على كافر لم يؤمن بالأدلة، وأقام على الكفر.
قال: نظيره قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُم}، وقال في حق فرعون: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى}.
ومنهم من ذهب إلى أن الموصول فيها أريد به معين، فروي عن عبد الله بن عُمَر وسعيد بن المسيب وزيد ابن أسلم وأبي روق أنه أمية بن أبي الصلت، فإنه كان قد قرأ الكتب، وعلم أن الله مرسل رسولًا في ذلك الوقت، ورجا أن يكون هو، فلما أرسل الله محمدًا عليه الصلاة والسلام، حسده، ثم مات كافرًا، ولم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال فيه رسول الله: «إنه آمن شعره وكفر قلبه» يريد أن شعره كشعر المؤمنين، وذلك أنه يوحد الله في شعره، ويذكر دلائل توحيده.
وقيل: نزلت في أبي عامر الراهب، الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق، كان يترهب في الجاهلية، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام، وأمر المنافقين باتخاذ مسجد الضرار والشقاق، وأتى قيصر واستنجده على النبي صلى الله عليه وسلم، فمات هناك طريدًا وحيدًا. وهو قول سعيد بن المسيب.
وقيل نزلت في منافقي أهل الكتاب، كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكروه. عن الحسن والأصم.
وقيل: إنه فرعون، والآيات آيات موسى، كأنه لما اقتص أنبياء بني إسرائيل عاد إلى قصة فرعون وضرب المثل.
ومن الأقوال التي تناقلها المفسرون أنها نزلت في بلعام بن بعور، ويحكون عنه قصة لم تُرو في جوامع الآثار الصحيحة عندنا، ولا هي مطابقة لما عند أهل الكتاب.
فقد ذكر نبؤه في الفصل الثاني والعشرين والثالث والعشرين من سفر العدد، من تاريخ التوراة، بغير ما يرويه المفسرون عنه، ثم رأيت الجشمي لم يصحح ذلك، فحمدت المولى على الموافقة. وعبارته:
وعن مجاهد قال: هو نبي يقال له بلعم، رشاه قومه فكفر. وهذا لا يجوز، لأن الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر، لأن ذلك ينفر الخلق عن الأنبياء، والقبول منهم، ويحقرهم في النفوس، ولأنهم حجج الله على خلقه اصطفاهم.
فالأقرب أنه لا يصح عن مجاهد. انتهى.
وهو كذلك لأن من قرأ نبأه السفر المتقدم، رأى من ثباته، وعدم موافقته لبالاق، ملك مؤاب، على ما أراد منه- ما يبرئه عن ذلك.
تنبيه:
قال الجشمي: إن قيل: كيف تتصل الآية بما قبلها؟
قلنا: على القول بأنه عنى بها فرعون فقد اتصلت قصته بقصة بني إسرائيل.
وقيل لما نهى عن تقليد الآباء في الدين، بين في هذه الآية حال علماء السوء، الذين يختارون الدنيا على الآخرة، نهيًا عن تقليدهم واتباعهم، كما نهى عن تقليد الآباء.
وقيل: لما تقدم ذكر أخذ الميثاق، بين حال من آتاه الله الآيات فانسلخ منها ولم يتبعها. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)}.
جملة مستأنفة لأنها جعلت إنشاء ذَم لهم، بأن كانوا في حالة شنيعة وظلموا أنفسهم.
والظلم هنا على حقيقته فإنهم ظلموا أنفسهم بما أحلّوه بها من الكفر الذي جعلهم مذمومين في الدنيا ومعذبين في الآخرة.
وتقديم المفعول للاختصاص، أي ما ظلموا إلا أنفسهم، وشأن العاقل أن لا يؤذي نفسه، وفيه إزالة تبجحهم بأنهم لم يتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم ظنًا منهم أن ذلك يغيظه ويغيظ المسلمين، وإنما يضُرون أنفسهم.
وجملة: {وأنفسهم كانوا يظلمون} يجوز أن تكون معطوفة على الصلة باعتبار أنهم معروفون بمضمون هذه الجملة عند النبي والمسلمين، ويجوز أن تكون معطوفة على جملة: {ساء مثلًا القوم} فتكون تذييلًا للجملة التي قبلها إخبارًا عنهم بأنهم في تكذيبهم، وإنتفاء من القصص ما ظلموا إلا أنفسهم.
وقوله: {كانوا يظلمون} أقوى في إفادة وصفهم بالظلم من أن يقال: وظلموا أنفسهم، كما تقدم في قوله تعالى: {وليكون من الموقنين} في سورة الأنعام (75). اهـ.

.قال الشعراوي:

{سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)}.
والحق قال فيهم من قبل: إنهم كذبوا بآياتنا، وضرب لهم المثل بابن باعوراء وكان مشهورًا في أيامهم، لكنهم فاقوا ابن باعوراء لأنه كان فردًا وهم جماعة؛ لذلك لا تقل إن في المسألة تكرارًا؛ لأن المثل من قبل ما كان على فرد واحد، أوتي آيات الله فانسلخ منها، ولكنهم كانوا جماعة. لذلك فانسلاخهم عن المنهج يجعل موقفهم أشد سوءًا. {سَاءَ مَثَلًا القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}.
و{ساء} أي قَبُح، وحين نقول: ساء فلان؛ أي قبح أمره، ولكن أي أمر من أموره هو القبيح؟ فنقول: ساء صحةً أي صار مريضًا أو ساء حالًا أي صار فقيرًا، أو ساء خلقًا أي صار شرسًا، وأنت حين تقول: ساء، فهذا السوء عام له جوانب متعددة، ويقتضي الأمر التمييز.
و{ساء مثلًا} أي ساء من جهة المثل، والمثل في ذاته لا يسوء؛ لأن الله تعالى يضرب المثل لنا. والمثل إنما يجيء ليبين ويشرح ويوضح، والمعنى هنا: ساء مثلًا حال القوم. أو القوم أنفسهم هم الذين ساءوا. لأنهم حين كذبوا بالآيات ظلموا أنفسهم، فالتكذيب منهم لم يعرقل منهج الله في الأرض، ولم يعرقلوا بالتكذيب شيئًا في كون الله تعالى، فالكون بنظامه ونسقه يسير بإرادته سبحانه وآيات الكون سائرة. إذن كان تكذيبهم بآيات لن يضير أبدًا في أي شيء. والخيبة إنما تقع عليهم. وإن كان التكذيب في الآيات المعجزات فقد بقي ذكر المعجزات إلى الآن. وهم الذين خابوا، وإن كانوا قد كذبوا بآيات المنهج فهم أيضًا الذين خسروا ولم يصب الآيات الإعجازية أو القرآنية أي شيء. وهم قد ظلموا أنفسهم ومثلهم في ذلك مثل المريض الذي لم يسمع كلام الطبيب فإنه يسيء إلى نفسه ولن يضر الطبيب شيء، والله سبحانه قد أعطانا المنهج لتستقيم به حركة الحياة، فمن يأخذه ينفع نفسه، ومن لا يأخذه لن يضر الله شيئًا.
هم إذن ظلموا أنفسهم، ومن يظلم نفسه كان هو أول عدو لها ولن يضر الله شيئًا، ولا الرسول، ولا المجتمع. {... وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 177].
وحين تجد معمولًا تقدم على عامله- قاعدة نحوية- فعلم أن هناك ما يسمى بالقصر في علم البلاغة، وقد نقول: يظلمون أنفسهم ويصح أن تعطف قائلًا: ويظلمون الناس. ولكن حين نقول: أنفسهم يظلمون، فمعنى ذلك أنه لا يتعدى ظلمهم أنفسهم، ويكون الكلام فيه قصر وتخصيص، مثلما نقول: {لله الأمر من قبل ومن بعد}، أي أن الأمر لا يتعدى إلى غيره أبدًا. اهـ.